في عالم اليوم الذي أصبح تنافسيًا للغاية، غالبًا ما يُهيمن التعليم والأنشطة التربويّة على أولويّات الآباء تجاه حياة أطفالهم. ما بين تعليم اللغات الأجنبيّة أو البرمجة أو غيرهما، يحرص الآباء على تزويد أطفالهم بكل مُتطلبات العصر العلميّة في مرحلة مُبكرة من حياتهم.
وفي ظل هذا الحرص على تزويد الطفل بالمعارف الضروريّة، قد يبدو اللعب مُجرّد شيئًا ثانويًا لا أهميّة له، ولكن الحقيقة غير ذلك تمامًا. فاللعب ليس مُجرَّد استراحة من التعلُّم، إنَّه في الواقع جوهر التعلُّم نفسه. فمن خلال اللعب، يستكشف الأطفال العالم من حولهم، ويطورون المهارات الأساسيَّة، ويشكلون الروابط التي ستشكل فهمهم لأنفسهم وللآخرين.
في هذا المقال، نتطرّق إلى الدور المحوري الذي يُساهم به اللعب في التنمية المعرفيَّة والجسديَّة والعاطفيَّة والاجتماعيَّة للأطفال، ونستكشف كيف أنّ اللعب هو جزء لا يتجزّأ من نموهم. وفيما يلي أهم فوائد اللعب بالنسبة للأطفال:
1. تنمية الإبداع والخيال
يُعد اللعب جانبًا أساسيًا وهامًا لنمو الجانب الإبداعي لعقل الطفل، حيث يلعب دورًا حاسمًا في بناء الخيال. سواءً كانوا يلعبون في المنزل، أو يتظاهرون بأنَّهم أبطال خارقون، أو ينخرطون في مُغامرات خياليَّة، يستخدم الأطفال خيالهم لإضفاء طابع من الحيويَّة على هذه السيناريوهات. وعندما يخترع الأطفال القصص والشخصيات والأماكن، فإنّ هذا بدوره يُعزِّز من قدرتهم على التخيُّل ويُوسِّع قدراتهم الإبداعيَّة بشكلٍ كبير.
وبجانب التخيُّل، غالبًا ما يتضمَّن اللعب التغلُّب على التحديات وحل المشكلات. سواءً كانوا يقومون بالبناء باستخدام المكعبات، أو يحلون بعض الألغاز – أو غير ذلك – فإنَّ الأطفال ينخرطون في عملية مُبسّطة من التفكير التحليلي وحل المشكلات. ومع استمرار هذا النوع من التفكير بمرور الوقت، فإنّ الطفل يكتسب قدر كبير من الإبداع أثناء استكشافه لأساليب مُختلفة وتجربة أفكار جديدة وإيجاد حلول مبتكرة.
بالإضافة إلى ذلك، تُوفّر بعض الألعاب للأطفال – مثل الرسم والتلوين – فرصةً كبيرة لتنمية الحس الفني لديهم. يُحفِّز هذا النوع من الألعاب الإبداع ويُنمِّي الموهبة الفنيّة من خلال السماح للأطفال باستكشاف مُختلف المواد والألوان واستخدامها لتحويل ما يدور في خيالهم إلى حقيقة وهو الأمر الذي يُحفّز الخيال بدرجةٍ كبيرة.
وبالطبع لا يُمكن إنكار دور ما يُعرف باللعب الرمزي، وهو قدرة الطفل على تخيُّل شيء ما على أنه شيء آخر. على سبيل المثال، يُمكن للطفل استخدام أحد أوعية المنزل وتخيّله كعجلة قيادة لسيارة ثم تخيُّل نفسه وهو ينطلق مسرعًا بهذه السيارة متفاديًا الحواجز التي أمامه. يُعد هذا النوع من اللعب جزءًا هامًا من التطوُّر العقلي للطفل، فهو يبني المهارات ويُحسّن الإبداع الذي يحتاجه الأطفال للتعلُّم في المستقبل.
2. تعزيز النمو المعرفي
تعتمد العديد من أنواع اللعب – مثل ألعاب الذاكرة والألغاز وسرد القصص – على الذاكرة والتركيز، حيث يجب على الأطفال أن يتذكَّروا الأشكال والقواعد والأنماط ويُركزوا في التفاصيل للمُشاركة في هذه الأنشطة. طبقًا لإحدى الدراسات، من خلال ممارسة هذا النوع من الألعاب بشكلٍ مُتكرِّر أو المشاركة في الأنشطة التي تتطلب عصفًا ذهنيًا للوصول إلى الحلول، يتم تقوية قشرة الفص الجبهي للدماغ فيكتسب الأطفال ذاكرة قويّة وقدرة كبيرة على التركيز لفترات أطول.
علاوةً على ذلك، تتضمَّن بعض الألعاب الأخرى تفكيرًا رياضيًا ومنطقيًا حتى يتمكّن الطفل من إكمال اللعبة بنجاح. على سبيل المثال، تشمل بعض الألعاب فرز الأشياء حسب الحجم أو الشكل أو اللون والعد والتصنيف والقيام ببعض العمليات الحسابيَّة البسيطة أو رسم بعض الخطط الاستراتيجيّة أثناء اللعب. يُساهم هذا النوع من الألعاب في تعزيز التفكير المنطقي، حيث يتعلَّم الأطفال تحليل السبب والنتيجة، وتوقُّع النتائج.
ونظرًا لأنّ اللعب يتضمَّن نشاطًا بدنيًا بجانب النشاط العقلي، فهو يُساعد على تطوير المهارات الحسيَّة الحركيَّة لدى الأطفال، والتي تعني وجود ترابط وتواصل قوي بين المخ والجسم. ولأنّ الألعاب التي تقوم على الحركة تتطلَّب وجود تنسيق بين التفكير والحركة، فإنّ الأطفال يكتسبون مع الوقت مهارة التحكُّم الحركي، علاوةً على تعزيز الوعي المكاني لديهم.
3. فوائد سلوكيَّة وعاطفيَّة
يُعد اللعب مُعلمًا مُمتازًا للأطفال، حيث يُساهم بشكلٍ كبير في تشكيل سلوكهم وشخصيّاتهم ومشاعرهم. اعتمادًا على مستوى الصعوبة، يُوفِّر اللعب فرصة كبيرة للأطفال لمواجهة التحديَّات والنكسات والخسارة، مما يُساهم في تطوير المرونة العاطفيَّة ومهارات التأقلم لديهم. من خلال اللعب والتأرجح بين الخسارة والمكسب، يتعلَّم الأطفال التكيُّف والمُثابرة ويُطورون قدرة طبيعيّة على تنظيم مشاعرهم، والتعافي من الخسارة، وهو الأمر الذي ينعكس بشكلٍ كبير على عواطفهم فيما بعد.
وفي حالة الألعاب الجماعيّة، فإنّ التفاعُل مع الأطفال الآخرين يُعزِّز المهارات الاجتماعيَّة والشخصيَّة لدى الطفل. نتيجةً لذلك، يتعلَّم الأطفال المُشاركة والتفاوض وحل النزاعات والتعاون أثناء اللعب واحترام وجهات نظر الآخرين، مما يُعزِّز قدرتهم على التعامُل في المواقف الاجتماعيَّة المُختلفة. ولذلك، فإنّ الأطفال الذين يُحيطهم الأهل بدرجةٍ كبيرة من الرعاية تصل إلى حد الانعزال عن الآخرين، غالبًا ما يكونون مُفتقدين للمهارات الاجتماعيّة بشكلٍ كبير ويواجهون صعوبة في التعامل مع الآخرين.
أضف إلى ذلك أنّ اللعب يُعزِّز الثقة بالنفس واحترام الذات لدى الأطفال. فأثناء انخراطهم في اللعب، يقوم الأطفال بتجربة أفكار مُختلفة للوصول إلى الحلول، ثم يشعرون بالإنجاز إذا نجحت أفكارهم في اجتياز اللعبة. تُساعد هذه النجاحات والإنجازات الصغيرة الأطفال في تكوين صورة ذاتية إيجابيَّة عن أنفسهم، والتي ستنتقل معهم بعد ذلك إلى باقي مراحل حياتهم.
4. تحسين المهارات اللغويّة والقراءة والكتابة
من خلال تصميم الألعاب لتشمل الأنشطة المُتعلِّقة بتقوية اللغة – مثل قراءة وكتابة القصص، أو المشاركة في ألعاب الحروف والكلمات – يُمكن تعزيز المهارات اللغويّة بشكلٍ كبير لدى الأطفال، بما في ذلك التعرُّف على الحروف وتوسيع مفرداتهم اللغويّة وفهم العلاقة بين الأصوات والكلمات المكتوبة. ومن خلال دمج القراءة والكتابة باللعب، يطور الأطفال ارتباطًا إيجابيًا بالقراءة والكتابة، مما يُشجعهم على الحفاظ عليها كعادة دائمة طوال الحياة.
بالإضافة إلى ذلك، يتضمَّن اللعب فهم القواعد واتِّباع التعليمات حتى يتمكّن الطفل من المُشاركة في اللعبة سواءً كانت لعبة ماديّة أو تطبيقًا على الهاتف المحمول. من خلال هذه الأنشطة، يقوم الأطفال بتطوير مهارات فهم اللغة لديهم، وفهم الإشارات اللفظيَّة والاستجابة لها، واتَِّباع التوجيهات، وكلها بالطبع أمور ضروريَّة للتواصل الفعال وفهم معنى اللغة المنطوقة.
نتيجةً لذلك، تقوم العديد من تطبيقات تعلُّم اللغات الأجنبيّة على فكرة مزج التعلُّم باللعب، وهو الأمر الذي يُساعد الطفل على تعلُّم اللغة بشكلٍ أسرع وأكثر كفاءة.
5. تنمية الشعور بالاستقلاليَّة
غالبًا ما يكون لدى الأطفال القليل من السُلطة أو القدرة على التعبير عن أنفسهم خلال أنشطتهم اليوميَّة، حيث يقضون معظم أيَّامهم في الاستماع إلى ما يجب عليهم فعله، ومتى يفعلون ذلك، وأين يجب عليهم الذهاب. أما في عالم اللعب، يُصبح لديهم الفرصة لممارسة سلطتهم ووضع قواعدهم الخاصّة.
أثناء اللعب، يتمتَّع الأطفال بالحريَّة في اتخاذ الخيارات والقرارات بشأن أنشطتهم وأدوارهم وتفضيلاتهم. تتيح لهم هذه الاستقلالية تطوير مهارات اتخاذ القرار وتعلُّم تحمُّل المسؤولية عن اختياراتهم. بمعنى أخر، يتعلَّم الأطفال من خلال اللعب تقييم الخيارات، والنظر في العواقب، واتخاذ القرارات بشكلٍ مُستقل، مما يعزز شعورهم بالاستقلاليّة.
علاوةً على ذلك، يُوفِّر اللعب الفرصة للأطفال لمواجهة التحديات وحل المشكلات بأنفسهم. سواءً كان الأمر يتعلق بمعرفة كيفية بناء برج، أو حل لغز، فإنَّ الأطفال يطورون مهارات حل المشكلات بأنفسهم من خلال اللعب وإيجاد الحلول بشكلٍ مستقل، مما يُعزِّز شعورهم بالاستقلاليَّة والاعتماد على الذات.
لذلك، لا يقل اللعب الانفرادي (المُستقل) أهميةً عن اللعب الجماعي مع الآخرين، حيث يُساعد الأطفال على الشعور بأنَّهم أكثر قدرةً على التعامل مع المهام الأخرى والوصول إلى الحلول بمفردهم ومعرفة مدى ملاءمتها لهم. وكما قال ألبرت أينشتاين: “إنَّ العزلة في الحياة الهادئة تُحفِّز العقل الإبداعي”.
6. تعزيز اللياقة البدنيَّة
سواءً أدرك الأطفال ذلك أم لا، فإنَّ أجسامهم مُبرمجة تلقائيًا على الحركة والنشاط. فالألعاب البدنيَّة – وخاصةً الأنشطة التي تنطوي على تمارين تحمُّل الوزن مثل الجري أو القفز – تدعم نمو العظام والعضلات لدى الأطفال. وبدون الحركة في مرحلة الطفولة، قد يُعاني الأطفال من مشاكل جسديّة في مراحل مُتقدمة من حياتهم.
تُساعد الألعاب التي تتطلّب نشاطًا جسديًا الأطفال على تطوير مهاراتهم الحركيَّة وصقلها، بما في ذلك المهارات الحركية الإجماليَّة مثل المشي والجري والمهارات الحركيَّة الدقيقة مثل التعامل مع الأشياء أو الرسم أو البناء بالمكعبات. ومن خلال الانغماس في أنشطة اللعب التي تتضمَّن الحركة، يكتسب الأطفال خفة حركة وترابطًا بين اليد والعين ولياقة بدنيّة عالية.
واللعب المنتظم والنشط له آثار صحيَّة إيجابية وطويلة المدى طوال حياة الطفل. وبغض النظر عن قدرات الطفل واهتماماته، فإنَّ اللعب الذي يضم أنشطة بدنيّة يُساعد الطفل على
- تحسين ردود الفعل وزيادة سرعتها.
- التحكُّم بسهولة في الحركة.
- تحسين المهارات الحركيَّة الإجمالية.
- تحقيق توازن أكبر للجسم.
- بناء عضلات قويَّة.
- تحسين كثافة العظام.
- زيادة وظيفة القلب والأوعية الدمويَّة.
والرائع في الأمر أنّ كل هذه الفوائد تحدُث أثناء الاستمتاع باللعب!
ختامًا، يُعد اللعب أكثر بكثير من مُجرَّد مُتعة للطفل، فهو حجر الزاوية الذي تُبنى عليه شخصيّته بعد ذلك. وكما اكتشفنا في هذا المقال، لا يقتصر اللعب فقط على الترفيه أو قضاء بعض الوقت المُمتع، بل هو عنصر حاسم في تشكيل رؤية الطفل للعالم، وتعزيز نموه المعرفي، وصقل مهاراته في حل المشكلات، وتنمية إبداعه وشعوره بالاستقلاليّة وقدراته الاجتماعيَّة
ومن خلال انتقاء أنواع اللعب التي يقضي فيها الأطفال أوقاتهم، فإنّنا نُوفِّر لهم تربة خصبة تتجذَّر فيها بذور ذواتهم وشخصيّاتهم المستقبليَّة. لذلك، يقع على عاتق أولياء الأمور إدراك أهمية اللعب والتأكُّد من حصول كل طفل على فرصة المشاركة في هذه التجربة الأساسيَّة والتكوينيَّة الهامّة في حياتهم
.وأخيرًا، لا تنسوا الاشتراك في المدوّنة ومُشاركة هذا المقال مع الأهل والأصدقاء لتعُمَّ الفائدة
المصدر: epl